مَكَانَةُ فَاطِمَة الزهْرَاء عِندَ الرسُول (صلى الله عليه وآله)
إن من الصعب المستصعب تحديد مكانة السيدة فاطمة الزهراء عند أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومن الصحيح أن يقال: أنه خارج عن قدرة القلم واللسان، والتحليل والبيان، ويمكن لنا أن نجمل القول ونوجزه فنقول:
كانت السيدة فاطمة الزهراء (رضى الله عنه) قد حلّت في أوسع مكان من قلب أبيها رسول الله (صلى الله عليه وآله) ووقعت في نفسه الشريفة أحسن موقع.
فكان النبي يحبها حباً لا يشبه محبة الآباء لبناتهم، إذ كان الحب مزيجاً بالاحترام والتعظيم، فلم يعهد من أي أبٍ في العالم ما شوهد من الرسول تجاه السيدة فاطمة الزهراء.
ولم يكن ذلك منبعثاً من العاطفة الأبوية فحسب، بل كان الرسول ينظر إلى ابنته بنظر الإكبار والإجلال وذلك لما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المواهب والمزايا والفضائل، ولعله (صلى الله عليه وآله) كان مأموراً باحترامها وتجليلها فما كان يَدَعُ فرصة أو مناسبة تمرّ به إلاّ وينوّه بعظمة ابنته، ويشهد بمواهبها ومكانتها السامية عند الله تعالى وعند الرسول (صلى الله عليه وآله).
مع العلم أنه لم يُسمع من الرسول ذلك الثناء المتواصل الرفيع ولا معشاره في حق بقية بناته، ولم يكن ثناؤه عليها اندفاعاً للعاطفة والحب النفسي فقط، بل ما كان يسع له السكوت عن فضائل ابنته ودرجتها السامية عند الله تعالى. ولو لم يكن لها عند الله تعالى فضل عظيم لم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) يفعل معها ذلك إذ كانت ولده وقد أمر الله بتعظيم الولد للوالد، ولا يجوز أن يفعل معها ذلك، وهو بضدّ ما أمر به أمته عن الله تعالى، وكان ذلك كله لأسباب منها: كشفاً للحقيقة، وإظهاراً لمقام ابنته عند الله وعند الرسول، وكان الرسول يعلم ما سيجري على ابنته العزيزة من بعده من أنواع الظلم والاضطهاد والإيذاء وهتك الحرمة، ولهذا أراد الرسول أن يتمّ الحجة على الناس، حتى لا يبقى لذي مقالٍ مقالُ أو عذر، وإليك هذه الأحاديث التي تدل على ما كانت تتمتع به السيدة فاطمة من المكانة في قلب الرسول (صلى الله عليه وآله):
في العاشر من البحار: روى القاضي أبو محمد الكرخي في كتابه عن الإمام الصادق (عليه السلام) قالت فاطمة (عليها السلام): لما نزلت (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) هُبتُ رسول الله أن أقول له: يا أبة. فكنت أقول: يا رسول الله. فأعرض عني مرة أو اثنتين أو ثلاثاً، ثم أقبل عليَّ فقال: يا فاطمة إنها لم تنزل فيكِ ولا في أهلكِ ولا في نسلكِ، أنت مني وأنا منك، إنما نزلت في أهل الجفاء والغلظة من قريش أصحاب البذخ والكبر، وقولي: يا أبة. فإنها أحيى للقلب وأرضى للرب.
أيضاً عن عائشة بنت طلحة عن عائشة قالت: ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله (صلى الله عليه وآله) من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه رحّب بها وقبَّل يديها وأجلسها في مجلسه، فإذا دخل عليها قامت إليه فرحبَّت به وقبّلت يديه.. الخ.
وسأل بزل الهروي للحسين بن روح قال: كم بنات رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ قال: أربع. فقال: أيتهن أفضل؟ قال: فاطمة، قال: ولِمَ صارت أفضل وكانت أصغرهن سناً، وأقلهن صحبة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) ؟ قال: لخصلتين خصّها الله بهما:
1 - أنها ورثت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
2 - نسل رسول الله منها، ولم يخصّها الله بذلك إلاّ بفضل إخلاص عرفه من نيّتها.
وفي كتاب مقتل الحسين للخوارزمي عن حذيفة قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا ينام حتى يقبل عرض وجنة فاطمة..
وعن ابن عمر: أن النبي (صلى الله عليه وآله) قبّل رأس فاطمة وقال: فداكِ أبوكِ، كما كنت فكوني. وفي رواية: فداكِ أبي وأمي.
وفي ذخائر العقبى عن عائشة: قبّل رسول الله (صلى الله عليه وآله) نحر فاطمة. وفي رواية: فقلت: يا رسول الله فعلتَ شيئاً لم تفعله؟ فقال: يا عائشة إني إذا اشتقت إلى الجنة قبّلت نحر فاطمة.
وروى القندوزي عن عائشة قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا قدم من سفر قبّل نحر فاطمة وقال: منها أشمّ رائحة الجنة.
أقول: قد ذكرنا شيئاً من هذه الأحاديث في أوائل الكتاب.
وبهذه الأحاديث الآتية - الصحيحة عند الفريقين - يمكن لنا أن نطّلع على المزيد من الأسباب والعلل التي كوّنت في سيدة النساء تلك القداسة والعظمة والجلالة:
1 - قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية بنت مزاحم (امرأة فرعون) ومريم بنت عمران(1).
2 - وقال أيضاً: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسيا بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد(2).
3 - وقال أيضاً: حسبك من نساء العالمين: مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم(3).
هذه أحاديث ثلاثة تصرّح بتفضيل هذه السيدات الأربع على سائر نساء العالم، ولكنها لا تصرّح ببيان الأفضل من تلك الأربع، ولكن الأحاديث المتواترة المعتبرة تصرّح بتفضيل السيدة فاطمة الزهراء عليهن وعلى غيرهن.
ونحن لا نشك في ذلك، بل نعتبره من الأمور المسلّمة المتفق عليها لأنها بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ولا نعدل بها أحد، ولم ننفرد بهذه الحقيقة، بل وافقنا على ذلك الكثير الكثير من العلماء والمحدثين المنصفين من المتقدمين منهم والمتأخرين والمعاصرين، بل صرّح بذلك بعضهم، وإليك بعض أقوال أولئك الأعلام:
عن مسروق قال: حدثتني عائشة أم المؤمنين قالت: إنا كنا أزواج النبي عنده لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة تمشي، لا والله ما تخفي مشيتها من مشية رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلما رآها رحَّب بها وقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم سارها(4) فبكت بكاءً شديداً، فلما رأى حزنها سارّها الثانية، فإذا هي تضحك، فقلت لها - أنا من بين نسائه -: خصّك رسول الله (صلى الله عليه وآله) بالسرّ من بيننا، ثم أنت تبكين! فلما قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألتها: عمّا سارّك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله سره، فلما توفي قلت لها: عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتني! قالت: أما الآن فنعم، فأخبرتني قالت: سارَّني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبرائيل كان يعارضه (القرآن) كل سنة(5) وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلاّ وقد اقترب، فاتقي الله واصبري فإني نعم السلف أنا لك، قالت: فبكيت بكائي الذي رأيتِ، فلما رأى جزعي سارّني الثانية قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء المؤمنين أو سيدة نساء هذه الأمة؟(6).
وفي رواية البغوي في (مصابيح السنة): ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين؟
وفي رواية الحاكم النيسابوري في المستدرك: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين وسيدة نساء هذه الأمة، وسيدة نساء المؤمنين؟
والأحاديث التي تصرّح بسيادتها وتفضيلها على نساء العالمين كثيرة جداًّ، وجُلّها مروية عن عائشة، وعن عمران بن حصين، وعن جابر بن سمرة وعن ابن عباس وأبي بريدة الأسلمي وغيرهم، وقد روى البخاري هذا الحديث في الجزء الرابع (صلى الله عليه وآله)203 من صحيحه، وعدد كثير من علماء العامة كالقسطلاني والقندوزي والمتقي والهيثمي والنسائي والطحاوي وغيرهم ممن يطول الكلام بذكرهم.
ولقد ورد هذا الحديث بطرق عديدة، وفي بعضها: أن سبب ضحكها هو إخبار النبي لها بأنها أول أهل بيته لحوقاً به، وفي بعضها أن سبب ضحكها أو تبسّمها هو إخبار النبي لها أنت سيدة نساء العالمين.
ولكن روى أحمد بن حنبل حديثاً يجمع بين هاتين الطائفتين من الأحاديث: بإسناده عن عائشة قالت: أقبلت فاطمة تمشي كأن مشيتها مشية الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال: مرحباً بابنتي، ثم أجلسها عن يمينه أو عن شماله، ثم أنه أسرَّ إليها حديثاً فبكت، ثم أسرَّ إليها حديثاً فضحكت، فقلت: ما رأيت كاليوم فرحاً أقرب من حزن، فسألتها عما قال: فقالت: ما كنت لأُفشي سرَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى إذا قُبض النبي سألتها؟ فقالت: إنه أسرَّ إليّ فقال: إن جبرائيل كان يعارضني بالقرآن في كل عام مرة، وإنه عارضني به العام مرتين ولا أراه إلاّ قد حضر أجلي، وأنك أول أهلي لحوقاً بي ونعم السلف أنا لكِ، فبكيت لذلك، ثم قال: ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأُمة أو نساء المؤمنين؟ قالت: فضحكتُ(7).
وقد روى البخاري في صحيحه ج5 ص21و29: أَن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني.
وروى البخاري عن أبي الوليد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: فاطمة بضعة مني من آذاها فقد آذاني.
وقد ورد هذا الحديث بألفاظ متنوعة ومعاني متحدة كقوله (صلى الله عليه وآله):
فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها.
فاطمة بضعة مني، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها(
.
فاطمة شجنة مني(9)، فاطمة مضغة مني فمن آذاها فقد آذاني.
فاطمة مضغة مني، يسرني ما يسرّها.
يا فاطمة إن الله يغضب لغضبك يرضى لرضاكِ.
فمن عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي بضعة مني.
هي قلبي وروحي التي بين جنبيّ، فمن آذاها فقد آذني.
إن الله يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها.
وقد روى هذه الأحاديث أكثر من خمسين رجلاً من رجال الحديث والسنن، كأحمد بن حنبل والبخاري وابن ماجة والسجستاني والترمذي والنّسائي وأبو الفرج والنيسابوري وأبو نعيم والبيهقي والخوارزمي وابن عساكر والبغوي وابن الجوزي وابن الأثير وابن أبي الحديد والسيوطي وابن حجر والبلاذري وغيرهم ممن يعسر إحصاؤُهم، وقد ذكرنا شيئاً من تلك الأحاديث مع مصادرها في أوائل الكتاب.
وقد وقعتْ هذه الأحاديث موقع الرضا والقبول من الصحابة والتابعين لتواترها وصحة إسنادها وشهرتها في الملأ الإسلامي.
أما الصحابة فلنا في المستقبل مجال واسع لاعتراف بعضهم بصحة هذا الحديث وسماعه من الرسول (صلى الله عليه وآله).
وأما التابعون فقد روى أبو الفرج في الأغاني ج8 ص307 بإسناده قال: دخل عبد الله بن حسن على عمر بن عبد العزيز وهو حديث السن وله وفرة، فرفع مجلسه، وأقبل عليه وقضى حوائجه، ثم أخذ عُكنة من عُكنه(10) فغمز (بطنه) حتى أوجعه وقال له: أذكرها عندك للشفاعة.
فلما خرج (عبد الله بن حسن) لامَه أهله(11) وقالوا: فعلتَ هذا بغلام حديث السن، فقال: إن الثقة حدثني حتى كأني أسمعه من فيّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: (إنما فاطمة بضعة مني يسرني ما يسرّها) وأنا أعلم أن فاطمة لو كانت حيَّة لسرّها ما فعلت بابنها، قالوا: فما معنى غمزك بطنه وقولك ما قلت؟ قال: إنه ليس أحد من بني هاشم إلاّ وله شفاعة، فرجوت أن أكون في شفاعة هذا.
قال السمهودي - بعد إيراده حديث فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها ويريبني ما أرابها -: فمن آذى شخصاً من أولاد فاطمة أو أبغضه جعل نفسه عُرضة لهذا الخطر العظيم، وبضده (وبالعكس) من تعرَّض لمرضاتها في حبّهم وإكرامهم.
وقال السهيلي: هذا الحديث يدل على أن من سبّها كفر، ومن صلَّى عليها فقد صلَّى على أبيها، واستنبط أن أولادها مثلها لأنهم بضعة مثلها، وفكّ الفرع من أصله هو فكّ الشيء من نفسه وهو غير ممكن ومحال، باعتبار أن ذلك الفرع هو الشخص المعمول من مادة ذلك الأصل ونتيجته المتولدة منه - انتهى كلامه -.
أقول: لعل المقصود من الخطر العظيم الذي ذكره السمهودي هو إشارة إلى قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعدَّ لهم عذاباً مهيناً) وقوله (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم).
أيها القارئ الذكي: بعد الانتباه لهذه الآيات، وبعد الإمعان والتدبير في هذه الأحاديث والروايات ما تقول فيمن آذى فاطمة الزهراء؟؟!!
أعود إلى حديثي عن مدى حب النبي (صلى الله عليه وآله) لابنته السيدة فاطمة الزهراء:
من الصعب إحصاء الأحاديث التي تصرّح بأن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان إذا أراد سفراً كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة (رضى الله عنها) وأول مَن يدخل عليها (بعد رجوعه من السفر) فاطمة، فقدم من غزاة، وقد علَّقت مسحاً أو ستراً على بابها، وحلَّت (من التحلية) الحسن والحسين قلبين من فضة، فقدم ولم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل دارها ما رأى، فهتكت الستر، وفكَّت القلبين من الصَّبيين، وقطعته منهما، فانطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهما يبكيان، فأخذه منهما فقال: يا ثوبان اذهب بهذا إلى فلان، إن هؤلاء أهلي أكره أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج.
روى هذا الحديث الخطيب العمري في (مشكاة المصابيح) والطبري في (ذخائر العقبى) والنويري في ( نهاية الأرب) والقندوزي في (ينابيع المودة) والطبراني في ( المعجم الكبير) والزبيدي في (إتحاف السادة) وغيرهم.
وقد روى هذا الحديث من علمائنا: الشيخ الكليني في (الكافي) والطبرسي في (مكارم الأخلاق) أكثر تفصيلاً وتوضيحاً مع اختلاف يسير:
عن زرارة عن أبي جعفر الباقر (رضى الله عنهم قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا أراد سفراً سلم على أهله، ويكون آخر من يسلِّم عليه فاطمة (عليها السلام) فيكون وجهه إلى سفره من بيتها، وإذا رجع بدأ بها (أي يزورها قبل كل أحد) فسافر مرَّة وقد أصاب علي (عليها السلام) شيئاً من الغنيمة فدفعه إلى فاطمة فخرج، فأخذت سوارين من فضة، وعلّقت على بابها ستراً، فلما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخل المسجد، فتوجَّه نحو بيت فاطمة كما كان يصنع، فقامت فرحة إلى أبيها صبابة وشوقاً إليه، فنظر فإذا في يدها سواران من فضة وإذا على بابها ستر، فقعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث ينظر إليها، فبكت فاطمة وحزنت وقالت: ما صنع هذا بي قبلها.
فدعت ابنيها، فنزعت الستر عن بابها، وخلعت السوارين من يديها ثم دفعت السوارين إلى أحدهما والستر إلى الآخر ثم قالت لهما: انطلقا إلى أبي، فأقرئاه السلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فشأنك به، فجاءاه، فأبلغاه ذلك عن أُمّهما، فقبَّلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتزمهما وأقعد كل واحد منهما على فحذه، ثم أمر بذينك السوارين فكسرّهما وجعلهما قطعاً، ثم دعا أهل الصُّفة وهم قوم من المهاجرين، لم يكن لهم منازل ولا أموال فقسّمه بينهم قطعاً.. الخ.
هذا الحديث الذي تراه مشهوراً عند الفريقين، مروياً بطرق عديدة لعله يحتاج إلى شرح وتعليق، مع العلم إن رواة هذا الحديث لم يتطرقوا إلى شرح ما يلزم:
ليس المقصود من هذا الستر هو الستر المرخى على مدخل البيت عند فتح باب البيت، لأن هذا الأمر مستحب للمبالغة على التستر والحجاب، وحاشا رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يغضب من سترٍ قد عُلّق على مدخل بيت فاطمة.
بل المقصود أن السيدة الزهراء (رضى الله عنها) كانت قد علَّقت على باب البيت (لا مدخل البيت) ستراً يستر الباب الخشبي، للزينة، المسمَّى في زماننا بـ(الديكور) تجملاً أو تجميلاً للباب وبعبارةٍ أخرى: ألبست الباب ثوباً - أي ستراً -، وليس هذا بحرام بل لأنه لا يتفق مع التزهد أو الزهد المطلوب من آل محمد (رضى الله عنهم) والمواساة المترقبة المتوقعة منهم، ونفس هذا الكلام يأتي في موضوع السوار والقلادة.
وبناءاً على صحة هذا الحديث كان الأفضل للسيدة الزهراء (عليها السلام) أن تنفق ذلك الستر في سبيل الله بسبب الحاجة الماسَّة إليه، لكثرة الفقراء، وشدَّة الفقر المدقع عند فقراء المهاجرين - من باب المواساة والإيثار -.
وروى ابن شاهين في (مناقب فاطمة) عن أبي هريرة وثوبان هذا الحديث مع تغيير يسير، إلى أن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): فعلتْ، فداها أبوها - ثلاث مرات - ما لآل محمد وللدنيا؟ فإنهم خلقوا للآخرة، وخُلقت الدنيا لهم.
وفي رواية أحمد بن حنبل: فإن هؤلاء أهل بيتي، ولا أُحب أن يأكلوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.
ويستفاد من هذا التعليل أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يحب أن ينقص حظ ابنته فاطمة الزهراء من الأجر والثواب في الآخرة، لأن مرارة الحياة وخشونة العيش في الدنيا لهما تعويض في الآخرة، وبهذا الحديث الآتي يتضح ما قلنا:
في العاشر من البحار عن تفسير الثعلبي عن جعفر بن محمد (عليه السلام) وعن جابر بن عبد الله الأنصاري قالا: رأى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة وعليها كساء من أجلّه الإبل، وهي تطحن بيديها، وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقالت: يا رسول الله الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه، فانزل الله: (ولسوف يعطيك ربك فترضى).
قد عرفت من مجموع هذه الأحاديث أن السيدة الزهراء (رضى الله عنها) كانت أقرب إنسانة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، واتصالها وارتباطها بالنبي هو اتصال وارتباط الجزء بالكل، وارتباط بعض الشيء بالبعض الآخر، فالحب والعطف والانسجام والعلاقات الودّية قد بلغت إلى أقصى درجة، فلا عجب إذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعلم ابنته أفضل الأعمال، ويرشدها إلى أحسن الأخلاق، ويفيض عليها أحسن المعارف وأرقاها.
والزهراء (رضى الله عنها) تلتهم العلوم الربانية من ذلك النبع العذب الزلال، وتمتص رحيق الحقيقة من مهبط الوحي، فيمتلئ قلبها الواعي الواسع بأنواع الحكمة، ويساعدها عقلها الوقّاد، وذكاؤها المفرط على فهم المعاني ودرك المفاهيم، وحفظ المطالب على أتمّ وجه وأكمل صورة فلقد سمعتْ من أبيها الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله) الكثير من العلوم، وتعلّمت منه القدر الغزير من الأحكام والأدعية والأخلاق والحِكَم وقد روى عنها القليل حسب ظروفها الخاصة ولما ستعرف قريباً، فمن ذلك:
ما روي في البحار في كتاب العلم عن تفسير الإمام العسكري (عليه السلام) قال: حضرت امرأة عند الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) فقالت: إن لي والدة ضعيفة وقد لبس - أي: اشتبه - عليها في أمر صلاتها شيء، وقد بعثتني إليك أسألكِ، فأجابتها فاطمة (عليها السلام) عن ذلك، فثنّت (أي: جاءت مرة ثانية أو سألت) فأجابت (الزهراء)، ثم ثلثت إلى أن عشرت (أي: جاءت مرة عاشرة أو سألت) فأجابت، ثم خجلت من الكثرة فقالت: لا أشقّ عليكِ يا ابنة رسول الله.
قالت فاطمة: هاتي وسلي عما بدا لكِ، أرأيت من أكتُرِيَ (أي استؤجِر) يوماً يصعد إلى سطح بحمل ثقيل، وكراه (أي أجرته) مائة ألف دينار يثقل عليه؟ فقالت: لا، فقالت: أكتُريتُ أنا لكل مسألة بأكثر من ملء ما بين الثرى إلى العرش لؤلؤاً، فأحرى أن لا يثقل عليَّ سمعت أبي (صلى الله عليه وآله) يقول: إن علماء شيعتنا يُحشرون، فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله حتى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام محمد (صلى الله عليه وآله) الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام - كمن يُخلع عليه مائة ألف خلعة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلّم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: (أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام، حتى تتموا لهم خلعهم، وتضعّفوها لهم، فيتمّ ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من يليهم ممن خلع على من يليهم).
ثم قالت فاطمة (رضى الله عنها): (يا أمة الله إن سلكةً من تلك الخِلَع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف ألف مرة).
وفي العاشر من البحار عن يزيد بن عبد الملك(12) عن أبيه عن جده قال: دخلت على فاطمة (عليها السلام)، فبدأتني بالسلام، ثم قالت: ما غدا بك؟ قلت: طلب البركة، قالت: أخبرني أبي (وهو: ذا): من سلّم عليه أو عليَّ ثلاثة أيام أوجب الله له الجنة، قلت لها: في حياته وحياتِك؟ قالت: نعم وبعد موتنا.
وفي كشف الغمة: روى عن عليّ (عليه السلام) عن فاطمة (عليها السلام) قالت: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا فاطمة من صلّى عليك غفر الله له، وألحقه بي حيث كنت من الجنة.
وعن دعوات الراوندي عن سويد بن غفلة قال: أصابت عليّاً (عليه السلام) شدّة، فأتت فاطمة (عليها السلام) رسول الله (صلى الله عليه وآله) فدقّت الباب، فقال: أسمع حسّ حبيبتي بالباب يا أم أيمن قومي وانظري! ففتحت لها الباب فدخلت، فقال (صلى الله عليه وآله): لقد جئتِنا في وقت ما كنتِ تأتينا في مثله؟ فقالت فاطمة: يا رسول الله ما طعام الملائكة عند ربنا؟ فقال: التحميد، فقالت: ما طعامنا؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده ما اقتبس في شهرٍ ناراً(13)، وأعلمك خمس كلمات علّمنيهن جبرائيل (عليه السلام) قالت: يا رسول الله ما الخمس كلمات؟ قال: (يا رب الأولين والآخرين، يا ذا القوة المتين ويا راحم المساكين ويا أرحم الراحمين)(14).
فرجعتْ فلما أبصرها علي (رضى الله عنها قال: بأبي أنت وأمي ما ورائك يا فاطمة؟
قالت: ذهبت للدنيا وجئت للآخرة! فقال علي: خير أمامك خير أمامكِ.
وفي العاشر من البحار عن الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: جاءت فاطمة تشكو إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعض أمرها، فأعطاها رسول الله (صلى الله عليه وآله) كَربةً وقال: تعلّمي ما فيها، وإذا فيها: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت.
ومن جملة التعاليم الإسلامية التي كانت السيدة فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) تهتم بها غاية الاهتمام، هي المحافظة على شرف المرأة وحفظ كيانها عن طريق الحجاب والتستر، فالزهراء تعلم (حسب علم الاجتماع) أن ملايين الفضائح والجرائم والمآسي تأتي عن طريق السفور والتبذّل والخلاعة والاختلاط، المسمىّ في زماننا هذا بالحرية والتقدم!
فإن كنت لا تصدق فأقرأ الجرائد والمجلات التي تصدر يومياً وأسبوعياً في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية كي تعرف عدد الضحايا التي تقدّمها الحضارة!.. والتقدم! والحرية!
ولا تنس أن معشار هذه الفجائع والمآسي ما كانت تحدث للمرأة المسلمة يوم كانت تؤمن بالحجاب والعفاف والحياء، يوم كانت تؤمن بالحلال والحرام، يوم كانت تأبى وتستنكف أن ينظر إليها رجل أجنبي واحد، فكيف أن تجعل جسمها ورأسها ووجهها محلاًّ لأنظار المئات بل الألوف من الرجال الأجانب، على اختلاف أديانهم وأهوائهم.
ولما ضاعت المفاهيم والقيم سقطت المرأة المسلمة إلى حيث سقطت وبلغ بها الأمر إلى ما بلغ!.
وإليك هذين الحديثين اللذين تضمنّا إعجاب الرسول (صلى الله عليه وآله) بكلام ابنته الطاهرة العفيفة فاطمة الزهراء حول المرأة، وتصديقه لها، وتقديره لرأيها:
روى أبو نعيم في (حلية الأولياء ج2 ص40) عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ما خيرٌ للنساء؟ فلم ندرِ ما نقول، فسار عليُّ إلى فاطمة فأخبرها بذلك، فقالت: فهلاّ قلت له: خير لهن أن لا يرين الرجال ولا يرونهن، فرجع - علي إلى رسول الله - فأخبره بذلك، فقال النبي.. صدقت إنها بضعة مني.
الرواية بصورة أخرى: عن علي (رضى الله عنها) أنه قال لفاطمة: ما خير النساء؟ قالت: لا يرين الرجال ولا يرونهن، فذكر ذلك للنبي فقال: إنما فاطمة بضعة مني.
وذكر ابن المغازلي في مناقبه عن علي بن الحسين بن علي (عليهم السلام) أن فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) استأذن عليها أعمى فحجبته فقال لها النبي (صلى الله عليه وآله) لم حجبتِه وهو لا يراك؟ فقالت: يا رسول الله إن لم يكن يراني فأنا أراه وهو يشمّ الريح، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): أشهد أنكَ بضعة مني.
هذا وقد رويت عن السيدة فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) أدعية كثيرة كانت تدعو بها ربها، يجدها الباحث في كتب الأدعية، ونكتفي - هنا - بذكر هذين: الحرز والدعاء، لئلا يخلو كتابنا عن هذه الفائدة:
دعاء النور: العلاج العجيب لمكافحة الحُمّى
لقد اشتهر بين الشيعة بكافة طبقاتهم من أهل العلم وغيرهم، دعاء النور المروي عن سيدتنا فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) وفي خلال هذه القرون ثبت بالتجارب - على مرّ التاريخ - أن لهذا الدعاء تأثيراً خاصاً للاستشفاء من الحمّى وقد ذكر ذلك جل علمائنا في كتب الأدعية والأحاديث، ومنهم السيد ابن طاووس في كتابه (مهج الدعوات).
وخلاصة الحديث أن السيدة فاطمة الزهراء (رضى الله عنها) علّمت سليمان الفارسي (رضوان الله عليه) هذا الدعاء وقالت له: إن سَرَّك أن لا يمسَّك أذى الحمّى ما عشت في دار الدنيا، فواظب على هذا الكلام الذي علّمنيه أبي محمد (صلى الله عليه وآله) كنت أقوله غدوة وعشية:
بِسمِ الله الرّحْمنِ الرَّحيمِ
بسم الله النور، بسم الله نور النور، بسم الله نور من نور، بسم الله الذي هو مدبّر الأمور، بسم الله الذي خلق النور من النور، الحمد لله الذي خلق النور من النور، وأنزل النور على الطُور، في كتاب مَسطور في رَقٍّ منشور، بَقَدر مقدور، على نبيٍّ مَحبُور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السَّرَّاء والضَّرَّاء مشكور، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
قال سلمان: والله لقد علّمتُ أكثر من ألف إنسان في مكة والمدينة كانوا مصابين بالحمّى، فبرئوا بإذن الله.
وعن كتاب (مُهج الدعوات) لابن طاووس رحمه الله: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) علّمها هذا الدعاء:
(اللهم ربنا ورب كل شيء، مُنزل التوراة والإنجيل والفرقان، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، صل على محمد وعلى أهل بيته (عليهم السلام)، واقض عني الدَين، وأغنني من الفقر، ويسّر لي كل أمر يا أرحم الراحمين).
بعدما قرأت وعرفَت من علم الزهراء وكثرة اتصالها بالرسول (صلى الله عليه وآله) هلمّ معي واستمع إلى ما يذكره العقاد ثم اضحك أو ابك:
ذكر العقاد في كتابه: (فاطمة والفاطميون) أحاديث سقيمة استحسنها هو، وكأنه أعجب بها، ومن جملتها هذه الخرافة: (ومن فكرة التدين في وريثة محمد وخديجة أنها كانت شديدة التحرّج فيما اعتقدته من أوامر الدين، حتى وهمت أن أكل الطعام المطبوخ يوجب الوضوء، يظهر ذلك من حديث الحسن بن الحسن عن فاطمة حيــث قـــالت: (دخـــل عليَّ رســــول الله (صلى الله عليه وآله) فأكــــل عِرقاً(15) فجاء بلال بالأذان فقام ليصلي، فأخذت بثوبه فقلت له: يا أبة ألا تتوضأ؟ فقال: ممنَّ أتوضأ يا بنية؟ فقلت: مما مسَّتِ النار. فقال لي: أو ليس أطيب طعامكم ما مسّت النار).
(فهي فيما تجهله تتحرج ولا تترخص، وتؤثر الشدة مع نفسها على الهوادة معها)(16).
لا أدري كيف أزيف هذه الأكذوبة التي اختلقتها يد الهوى، وصاغتها ألسنة الكذب والدجل، ولا أطالب العقاد عن مصدر هذه الأسطورة، ولا عن كتاب ذكر هذه الأضحوكة، فالحديث منه عليه شواهد أنه كذب وافتراء بصرف النظر عن المصدر والكتاب.
ولكني أقول: ممن كانت الزهراء تأخذ معالم الدين؟ وممن كانت تتعلم أحكام الإسلام؟ أليس المصدر الأول لعلومها هو أبوها رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟ وزوجها باب مدينة علم الرسول علي بن أبي طالب؟ وقبل هذين هو القرآن العظيم الذي نزل شيء منه في بيتها؟ فمن أين جاءها هذا التوهم؟ من القرآن؟ من أبيها؟ من زوجها؟ وكيف كانت تجهل سيدة نساء العالمين هذا الحكم الذي تكثر إليه الحاجة، ويعم به الابتلاء؟ فهل كانت السيدة فاطمة تأخذ الأحكام من الكذابين الدجالين فتعلمت هذا الحكم؟ ولهذا أخذت بثوب أبيها لتمنعه عن الصلاة بلا وضوء؟
وبعد أعود إلى حديثي عن إمكانيات السيدة فاطمة - المكبوتة -:
فلو كانت الزهراء (رضى الله عنها تعيش أكثر مما عاشت مع فسح المجال أمامها لملأت الدنيا علماً وثقافة ومعرفة، وليس هذا إدّعاءً فارغاً، فقد وجدت السيدة الزهراء المجال في حياتها ساعتين فقط: ساعة خطبت فيها في مسجد أبيها الرسول (صلى الله عليه وآله) وساعة خطبت في بيتها للنساء اللاتي حضرن لعيادتها وستعرف قريباً مدى مواهبها وسعة اطلاعها، وكثرة معلوماتها ومقدار قدرتها على الأداء والشرح والبيان.
ولكنها - أسفي عليها - ما عاشت إلا يسيراً، وقد عرفت تاريخ ميلادها وستعرف تاريخ وفاتها، وستعرف أنها ماتت ولن تبلغ العشرين من العمر، فما تقول لو كانت الزهراء تعيش حتى تبلغ الخمسين والستين من العمر مع فسح المجال أمامها؟ لكانت تترك للأمة الإسلامية أعظم ثروة فكرية وعلمية في شتى المواضيع والفنون ولكن..؟؟!!
من الطبيعي أن السيدة فاطمة (عليها السلام) مع منزلتها القريبة ومكانتها الخاصة عند الرسول (صلى الله عليه وآله) كان الرسول يخبرها عن المستقبل الخاص والعام فهو (صلى الله عليه وآله) كان يخبر الناس عما يجري بعده ويخبرهم عن أشراط الساعة، وعلائم آخر الزمان ومشاهد القيامة أتراه لا يعلم بما يجري على أهل بيته من بعده، وعلى ابنته العزيزة فاطمة الزهراء؟ أو تراه يعلم ذلك ولا يخبرهم بما يتعلق بمستقبلهم ومصيرهم؟؟
نعم كان الرسول (صلى الله عليه وآله) يخبرهم بما سيجري عليهم من الناس من بعد وفاته مباشرة وبعد ذلك على طول خط التاريخ، فكم أخبر النبي (صلى الله عليه وآله) أصحابه وزوجاته بشهادة الحسين (رضى الله عنهم
ومن اليقين أنه (صلى الله عليه وآله) أخبر ابنته الحبيبة فاطمة بمصائبها ونوائبها واضطهادها وما يجري عليها من المآسي.
وخاصة في الأيام الأخيرة من حياته الشريفة، وعلى الأخص في الليلة الأخيرة واليوم الأخير من حياته فقد ضاق المجال وحضرت الساعة الحرجة ليكشف رسول الله (صلى الله عليه وآله) النقاب عن الواقع لابنته ويخبرها بكل صراحة فيبشرّها أنها لا تلبث بعده إلا قليلاً ثم تلتحق بأبيها الرسول في الدرجات العلا والرفيق الأعلى، ثم يخبرها بتبدل الأحوال وتغيّر الأوضاع:
في العاشر من البحار عن أمالي الشيخ المفيد عن عبد الله بن عباس قال: لما حضرت رسول الله (صلى الله عليه وآله) الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله ما يبكيك؟ فقال: أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمَّتي فلا يعينها أحد من أمتي.
فسمعت ذلك فاطمة (عليها السلام) فبكت، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا تبكينّ يا بنيّة. فقالت: لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكنني أبكي لفراقك يا رسول الله فقال لها: أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي.
وفي العاشر من البحار عن الأمالي عن ابن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أنه قال: وإني لما رأيتها (فاطمة) ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأني وقد دخل الذل بيتها وانتهكت حرمتها، وغُصب حقُّها، ومُنع إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه. فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة.. الخ.
هذا والأخبار والأحاديث الواردة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في إخباره أهل بيته بما يجري عليهم من بعده - كثيرة جداً - وآخر مرة أخبر النبي أهل بيته (وهم عليّ والزهراء والحسن والحسين) في مرض موته، وقبل وفاته (صلى الله عليه وآله) بساعات قلائل.
في السادس من البحار عن تفسير فرأت بن إبراهيم عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في مرضه الذي قبض فيه لفاطمة (رضىالله عنها): بأبي وأمي أنتِ! أرسلي إلى بعلك فادعيه لي. فقالت فاطمة للحسين أو الحسن: انطلق إلى أبيك فقل: يدعوك جدي، فانطلق إليه الحسين فدعاه. فأقبل عليّ بن أبي طالب رضى الله عتهم حتى دخل على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفاطمة عنده وهي تقول:
واكرباه لكربك يا أبتاه! فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله): لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة، ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون.
وفي السادس من البحار: أن النبي (صلى الله عليه وآله) دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين (رضى الله عنهم) وقال - لمن في بيته -: أخرجوا عني. وقال - لأم سلمة -: كوني على الباب فلا يقربه أحد.
ثم قال لعلي: أُدنُ مني، فدنا منه فأخذ بيد فاطمة فوضعها على صدره طويلاً وأخذ بيد عليّ بيده الأخرى، فلما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله) الكلام غلبته عبرته، فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة بكاءً شديداً و بكى عليّ والحسن والحسين (رضىالله عتهم) لبكاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقالت فاطمة: يا رسول الله قد قطعت قلبي، وأحرقت كبدي لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين، ويا أمين ربه ورسوله، ويا حبيبه ونبيّه مَن لولدي بعدك؟ ولذُلٍّ ينزل بي بعدك؟ مَن لعليّ أخيك وناصر الدين؟ من لوحي الله وأمره؟
ثم بكت وأكبَّت على وجهه فقبلته، وأكبَّ عليه عليّ والحسن والحسين (رضى الله عنهم) فرفع رأسه (صلى الله عليه وآله) إليهم، ويد فاطمة في يده فوضعها في يد عليّ وقال له: يا أبا الحسن وديعة الله ووديعة رسوله محمد عندك، فاحفظ الله واحفظني فيها، وإنك لفاعل هذا.
يا عليّ هذه - والله - سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، هذه - والله - مريم الكبرى(17).
أما - والله - ما بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم، فأعطاني ما سألته.
يا عليّ أنفذ ما أمرتك به فاطمة، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل. واعلم يا عليّ أني راضٍ عمّن رضيت عنه ابنتي فاطمة، وكذلك ربي وملائكته.
يا عليّ: ويل لمن ظلمها، ويل لمن ابتزّها حقها، وويل لمن هتك حرمتها.. ثم ضمّ (صلى الله عليه وآله) فاطمة إليه وقبّل رأسها وقال: فداك أبوك يا فاطمة.
كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) في تلك الساعة الأخيرة واضعاً رأسه على صدر عليّ (عليه السلام) وقلبه لا يطاوعه إلاَّ أن يضمّ فاطمة إلى صدره مرة بعد مرة ودموعه تجري كالمطر حتى ابتلت لحيته الشريفة وابتلت الملاءة التي كانت عليه، وأقبل الحسن والحسين يقبلان قدميه ويبكيان بأعلى أصواتهما وأراد عليّ (عليه السلام) أن يرفعهما، فقال النبي (صلى الله عليه وآله): دَعهما يشمّاني وأشمّهما، ويتزوّدا مني وأتزوّد منهما، فسيلقيان من بعدي زلزالاً، وأمراً عضالاً، فلعن الله من يحيفهما، اللهم إني أستودعكهما وصالح المؤمنين.
ولا تسأل عن بكاء السيدة فاطمة الزهراء في تلك اللحظات وهي ترى أباها الرسول العظيم ووالدها البار العطوف الحنون على أعتاب المنيّة، فكانت تخاطب أباها بدموع جارية: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء، يا أبتاه ألا تكلمني كلمة فإني أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً.
فقال لها: بُنية إني مفارقك، فسلام عليك مني.
وفي كشف الغمة. ثم قال (صلى الله عليه وآله): يا بنية أنتِ المظلومة بعدي! وأنت المستضعفة بعدي، فمن آذاك فقد آذاني، ومن جفاكِ فقد جفاني، ومن وصلك فقد وصلني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن أنصفك فقد أنصفني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني وروحي التي بين جَنبيّ، ثم قال: إلى الله أشكو ظالميك من أمتي.
فما مضت سوى فترة قصيرة إذ قام عليّ (رضى الله عنه) قائلاً: أعظم الله أجوركم في نبيكم فقد قبضه الله إليه. فارتفعت الأصوات بالضجة والبكاء، فكان أعظم يوم في تاريخ البشر، وأوجع صدمة على قلوب المسلمين، ولم ير يوم أكثر باكياً وباكية من ذلك اليوم.
وهكذا مرّت تلك الساعة المُرة العصيبة التي كانت أصعب ساعة في حياة الزهراء، فكيف انقضت تلك الدقائق على قلب فاطمة وهي ترى أباها مسجّى لا حراك به؟!
فكانت الزهراء تقول: يا أبتاه من ربه مــا أدنـــاه! وا أبتاه جـــنة الفردوس مـــأواه! وا أبتاه إلى جبرئيل ننعاه! وا أبتاه أجاب ربّاً دعاه(18).
وكان عليّ يقول: يا رسول الله! والحسنان يبكيان يقولان: واجدّاه واجدّاه(19).
وقام عليّ (رضى الله عنه) بتغسيل الرسول (صلى الله عليه وآله) وتحنيطه وتكفينه وحضر وقت الصلاة عليه، فكانت السيدة فاطمة الزهراء من جملة المصلّين على جثمان أبيها العظيم في الوجبة الأولى(20).
وإلى أن دفن رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان بكاء الزهراء مستمراً متصلاً ورجعت إلى بيتها واجتمعت النساء فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون، انقطع عنا خبر السماء، ثم قالت في مرثية أبيها أبياتاً نذكرها قريباً، وقالت لأنس بن مالك: أطابت نفوسكم أن تحثّوا على رسول الله التراب؟
وفي كشف الغمة عن الإمام الباقر (رضى الله عنه): ما رؤيت فاطمة (عليها السلام) ضاحكة مستبشرة منذ قُبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى قُبضت. وفي رواية أخرى: إلاّ يوماً افترت بطرف نابها، وعن عمران بن دينار: إن فاطمة لم تضحك بعد النبي حتى قُبضت لِما لحقها من شدة الحزن على أبيها (صلى الله عليه وآله).